الاثنين، 6 أكتوبر 2008

ليلة العيد

(1) - اصحى يا مينا.. قوم يا حبيبى.
هكذا نادت الأم ابنها الصغير (مينا) صاحب السنوات الست ليستيقظ من النوم. فاليوم هو ليلة العيد. ولابد من الذهاب للكنيسة صباحاً لتحصل على شئ لابنها من لجنة (أخوة المسيح) رغم أنها لم تفرح كثيراً عندما كتب أبونا أرميا أسمها ضمن كشف الأسماء التابع لأسرة إخوة المسيح واعتذرت لأبونا بأنها غير محتاجة وأن (ربنا بيبعت) إلا أنها لم تستطع أن تثنى أبونا عن قراره فى كتابة اسمها فى كشف إخوة المسيح - فهى ليس لها أحد يعولها هى وابنها مينا. بعد وفاة زوجها الذى كان يعمل باليومية، ولذلك لم يترك لهم أى شئ سوى قلب الله الرحيم وغرفة بحمام فى دور أرضى. لذلك يجب أن تأتى إلى الكنيسة صباحاً لتأخذ نصيبها الذى أرسله لها السيد الرب فى شكل إعانة. هكذا قال أبونا أرميا لها، ولذلك فهى لم ترفض طاعة لأبونا من جهة ومن جهة أخرى أنها لم تكن تعرف كيف ستقضى العيد.. عموماً هى لم تفقد لحظة واحدة إيمانها بالسيد الرب الذى يعطى الجميع بسخاء، ولكن كل ما يهمها فى الموضوع - مينا فهو عندما يرى الأطفال فى الشارع يوم العيد يرى الملابس الجديدة والأحذية اللامعة والنقود ذات الفئات المختلفة - يسأل والدته فى بساطة قلب. لماذا لا يوجد عندنا عيد مثل هؤلاء الأطفال؟ فالعيد هو هذه الأشياء فى نظره.
فتجيبه أمه وكلها إيمان وثقة (أن هذه الأشياء يا مينا هى قشور العيد. وإنما العيد هو بركات وهبات لا يراها أحد). وتبدأ تشرح له قصة العيد وسبب الاحتفال به وبركاته وكيف نستفيد به. مما جعله فى هذه السن الصغيرة يحمل إيماناً ومفاهيماً لا يدركها الكثيرين من الرجال والنساء الكبار.

(2) خرجت الأم مع ابنها من منزلهما الصغير فى طريقهما للكنيسة. وهى رافعة قلبها للرب يسوع أن يسهل الأمور كما يرى. كانت الكنيسة ليست بعيدة، ولكنها مع ذلك ليست قريبة.. لأنها كانت تقطع المسافة سيراً على قدميها.. لذلك فقد وصلت الكنيسة بعد جهد..، ومع ذلك كان الوقت ما يزال مبكراً بعض الشئ - حوالى العاشرة صباحاً- ووجدت هناك بعض الأشخاص والأطفال- استشفت بفطنتها أنهم من إخوة المسيح.. كانوا يجلسون أمام مكتب الرعاية بالكنيسة..، ومع أن الباب مغلق. لكنهم فى جلستهم حرصوا على أن يكونوا ليسوا ببعدين عنه أكثر من خطوة واحدة فقط، وذلك لأمر لم تستطع أن تعرفه.

(3) ذهبت الأم فى صحبة طفلها إلى حيث مبنى الكنيسة.. فوجدت أن البابا مغلقاً فصلَّت أمام الباب الصلاة الربانية ورجعت فجلست مع الجالسين وانتظرت، وتزايد العدد إلى حوالى خمسة أضعاف. الساعات تمر.. حرارة الشمس تزداد آكلة فى طريقها كل ظلال المبانى حتى جاءت ووقفت فوق رؤوس الجميع ولا أحد يستطيع أن يعترض على تصرفاتها القاسية معهم.. ولا شئ يمنع أشعتها الملتهبة عن الوصول إلى رؤوس الأطفال والكبار.. لا تذمر.. ذلة الفقر تكسر النفوس. الكل فى امتثال عجيب.. وضع أغلب الموجودون أى شئ على رؤوس أولادهم الصغار لحمايتهم من بطش الأشعة التى تعلمت قسوتها من الإنسان الذى لم يستنكف من بناء حجرة الرعاية فى مكان منفرد فى الخلف حتى لا يتضايق روَّاد الكنيسة من (الهاى لايف) من منظر ملابس إخوة يسوع ويعزفون عن الصلاة فى الكنيسة ظناً منهم أنها كنيسة دون المستوى.. عند ذلك تحرم الكنيسة من دعمهم لها.. عموماً ها هو شخص قادم من بعيد..

(4) كانت الساعة قد جاوزت الثانية عشر ظهراً عندما جاء العامل المسئول عن تنظيف الكنيسة ليفجر المفاجأة أن الأستاذ (صالح) المسئول عن خدمة إخوة المسيح يتعذر عليه الحضور الآن، وذلك لسبب لا يعلمه أحد ولكنه سوف يكون متواجداً بمكتبه فى حوالى الخامسة مساءً، ولذلك على الجميع أن ينصرف كل منهم إلى حال سبيله..، وعندما قرر بضعهم الانتظار هذه الفترة.. نظر العامل إليهم شذراً بنظرات ملأتها القسوة وعدم الرحمة قائلاً بأنه سوف يغلق الكنيسة، ولا يريد أى فرد منهم متواجداً بالداخل كانت كلماته المسترسلة منه فى عدم اكتراث بهم تخرج كما الشتائم..، وهذه هى الطريقة التى يتعامل بها معه الأستاذ (صالح) ولابد لهذا العامل أنم يجد له من يسقط عليه كل ما يجرى له من إهدار لكرامته.

(5) لملم معظم الحاضرين خيبة الأمل بسرعة وقاموا لينصرفوا لا يعلم أحد - غير الله - ما فى نفوسهم وما تحتويه قلوبهم من هموم وأحزان وحاول البعض النهوض من مجلسهم.. فكأنما قد وُضعت على أكتافهم أثقالاً وأثقالاً على همومهم فزاد الحمل فوق احتمال طاقتهم المحدودة فعجزوا، وفشلت محاولة النهوض.. فكرروا المحاولة مستعينين بقوة من الله الذى أنهضهم بسرعة ليحميهم من نظرات العامل الذى كان يقف فى حالة ترقب ليشعل معركة دامية مع من يحاول التملص من فكرة المغادرة عندئذ قال مينا فى بساطة لأمه (تعالى نروَّح يا ماما. ونيجى بعدين) ولم يكن فى وسع الأم الحزينة أن تجيب أو أن ترفض فتحركت فى تثاقل فبدا كما لو كان ابنها يجرها جراً. كانت قد عقدت الآمال على أنها قد تجد (لمينا) شيئاً يستطيع أن يرتديه فى العيد. فتوفر عليه آلام اليتم بعض الشئ. وآلام الفقر أيضاً- فى طريق عودتهما للمنزل كان مينا ينظر لوالدته وهو لا يدرك ما سبب حالة الضيق التى تملكت عليها ورأى أنه من واجبه فى غياب والده.. أن يخفف عنها هذا الضيق فقال لها فى براءة وحب (كل سنة وأنى طيبة يا ماما).. هنا أفاقت الأم من غمرة أحزانها.. ونظرت لابنها فى فرح وردت عليه فى بشاشة (وأنت طيب ياروح ماما) ثم طبعت فوق خديه الصغيرين. قبلتين ضاغطتين جعلتا وجهه يحمر خجلاً وفرحاً معاً .

(6) فى المنزل أيضاً - ورغم اتكالها على الرب - لم تقو الأم على الخروج من حالة التفكير التى كانت عليها قبل ذلك وهنا سألها (مينا) عن سبب ضيقها.. فردت عليه بكل همومها. كأنما قد رأته أمامها رجلاً يافعاً يريد أن يرفع من على عاتقها عبء المسئولية، ولعلها قالت له كل شئ فى صراحة لعلمها المسبق أنه لم يفهم ما تقصده، ولكن لمجرد الفضفضة لتستريح وفوجئت به يقول لها فى جدية أدهشتها (يا ماما مش هو ده العيد.. دى الحاجات دى قشر العيد.. أنا عاوز آكل العيد ومش هزعل على القشرة لو ضاعت منى) ضحكت الأم من قلبها على إيمان ابنها الصغير وأدركت أن ما غرسته بدأ ينمو فى قلبه ونسيت الأم كل أحزانها وقامت فأحضرت طعاماً لابنها فأكلا معاً.. وتعزَّى قلبها.

(7) فى الخامسة مساءً كانت الأم قد ارتدت ملابسها هى وابنها، وكانا فى طريقهما إلى الكنيسة من أجل حضور قداس ليلة العيد.. وكانت فكرة المرور على مكتب الرعاية مازالت تداعبها، وعندما وصلا للكنيسة كانت مفتوحة الأبواب مزينة كعروس لرجلها. تتلألا بالأنوار.. وقد مُدَّت الأبسطة الملوكية الحمراء فى كل طرقاتها ووضعت الستائر الجديدة المطرزة بأحلى الألوان وأجمل الصور وأزيلت كل الأتربة عن الأيقونات الكنسية.. فبدت كما لو كانت جديدة.. ونصبت الشاشات العملاقة لنقل الصلوات من داخل الهيكل للمصلين فى خارج الكنيسة حيث أعدت الخيام ووضعت لها الكراسى الأسفنجية والأضواء الملونة والمراوح للتخفيف من حدة الحر على جموع المصلين المتأخرين ووقف فى نظام حوالى مئة شاب وشابة وفتى وفتاة يرتدون ثياب موحده يقف أمامهم الخادم المسئول يشرح لهم لآخر مرة كيف سيسير النظام فى هذه الليلة وما هى الطرق المختلفة للتعامل مع المشاكل المتعددة التى قد يتعرضون لها كأعضاء فى أسرة النظام. وكان صوت معلم الكنيسة يدوى محدثاً صدىً جميلاً عبر الميكرفون فى الكنيسة الخالية من المصلين بتسابيح ليست عربية لها نغمات جميلة رغم أنها غير مفهومة.

(8) لما رأت الأم أن القداس لم يبدأ بعد. قررت الذهاب لمكتب الرعاية فى محاولة أخيرة.. فوجدته مفتوحاً لا يوجد أمامه شخص واحد.. دخلت فى حياء شديد بعد أن طرقت على الباب المفتوح.. كان الأستاذ صالح أمين الخدمة الخاص برعاية إخوة الرب جالساً على كرسى خلف المكتب ولضخامته بدأ كما لو كان جالساً فوق المكتب وقبل أن تنطق بكلمة واحدة.. فوجئت به فى تحفزه وكأنه ينقض على فريسته بصوته الأجش قائلاً :
* أأأ أفندم؟
- أنا - باعتنى .. أبونا
- أبونا مين ده؟
* أبونا أرميا..
- خير إن شاء الله
* هو قال لى.. إنه كتب اسمى فى أسرة أخوة المسيح.. علشان..
- هيكون علشان إيه يعنى؟..عشان عايزة مساعدة طبعاً. مش كدة؟
* أنا بس لو فى حاجة للولد.. عشان.
- متأسف.. العيد ده مش ممكن لأن الحاجات خلصت.
لم تجد ساعتها الأم كلمات لترد بها فالإجابة صريحة.. ولت ظهرها خارجة من المكتب وهى لا تعرف.. هل هى فى غيبوية أم أنها قد هوت فى بئر عميق لا قاع له.. وفى خروجها التقطت أذنها كلمات قلائل من فم الجالس خلف المكتب (ميروحوا يشتغلوا.. بدل ما يشحتوا) فكانت كلماته كالقذيفة الخارجة من مدفع متخصص فى تدمير الأهداف الحيوية بكل بساطة ويسر هنا أدركت لماذا لم تجد شخص واحد أمام المكتب.. تمالكت نفسها بصعوبة وكتمت دموعها حتى لا يراها ابنها الصغير. وأخذته من يده.. لكى يقودها للكنيسة.. التى وجدت بها بعض المصلين قد اتخذوا أماكنهم بالفعل فيها.. جلست مع ابنها فى إحدى المقاعد فى الصفوف الوسطى فى جانب السيدات.

(9) بدأ توافد روَّاد الكنيسة وبدا لها أنها جالسة فى مكان آخر غير الكنيسة فما تراه حولها يصلح لأى مكان آخر غير بيت الله ظنت نفسها تجلس إلى إحدى الموائد المستديرة فى ديفيليه لعرض أحدث خطوط الموضة لملابس وأحذية وشنط السيدات، ولكن لما رأت كل هذه الألوان التى تلون وجوه السيدات والآنسات من حولها ظنت أن إحدى الشركات المتخصصة فى إنتاج أدوات الماكياج للسيدات تقوم اليوم بتصوير أحدث إعلاناتها التجارية.. لكنها عدلت عن ظنها عندما وجدت تسريحات الشعر المختلفة والتى لم تتشابه فيها تسريحة مع أخرى.. فظنت أن أحد مصففى الشعر المشهورين قد قام بعمل كل هذه الأشكال.. كدعاية له.. وتخيلت أن تجد اسم مصفف الشعر وعنوانه على كارت معلق فوق شعر أى منهن، ولمَّا لم تجد ما فكرت فيه آثار إنتابها أن معظم الموديلات الموجودة.. والتى ترتديها السيدات فى غير خجل لا تحتوى على أكمام كمأ أن معظمهن يلبسن فساتين أخواتهن الصغيرات.. (لأنها أقصر من أن تكون ملكهن)..، ولكنها تركت ما رأت وراحت تنتبه إلى الروائح التى تتهادى إليها .. كل فترة فى خلال مرورهن عليها فظنت أنها فى حديقة مليئة بالزهور المختلفة الروائح.. ولما أحست أنه سيضيع القداس الإلهى دونما استفادة - وكذلك عندما لاحظت نظرات غريبة من كل الجالسات خلفها وحولها وكأنما هى من كوكب آخر - حملت ابنها ورجعت إلى الصف الأخير من الكنيسة.. لئلا تكون عثرة لأحداهن.. واستغرقت فى الصلاة دون أن تشعر بأى نوع من التذمر أو الدونية.
(10) كان كل ما يهمها فى الموضوع، ويشغل لها بالاً (مينا) وها هو مينا يكاد يطير من الفرحة من جمال منظر الكنيسة منظر الكهنة والشمامسة والألحان الجميلة المدوية والنغمات المتعالية ورنات الدف والتريانتو وجو الحب والدفء فى الكنيسة مدركاً تماماً أن هذا هو العيد فعلاً..
(11) وانتهى القداس وفى طريق العودة للمنزل.. وجدت الأم ابنها مينا وهو يبتسم لها فى حبور وبشاشة معطياً إياها ظرفاً صغيراً وهو يقول كل سنة وأنتى طيبة يا ماما.
* إيه ده يا مينا؟
- مش عارف.. لما دخلت أتناول واحد إدانى الظرف ده وقال لى إيديه لماما وأنت مروح فى السكة فتحت الأم الظرف..، وكان المفاجأة، وجدت به مبلغاً من المال. لا يكفى لقضاء العيد فقط بل أيضاً يعولها مع ابنها فترة طويلة. حاولت أن تعرف من ابنها من هو هذا الشخص فلم يستطع أن يفيدها فى شئ.. لم يكن الأمر كله يهمه.. كل ما كان يهمه هو شعوره أنه سعيد وفرحان لشئ لا يعرفه.. وكيف لا يعرفه وهذا هو العيد.

(12) شكرت الأم الرب على رعايته لها.. ورن فى أذنها صوتها لأبونا حينما قالت (ربنا بيبعت).. وطأطأت رأٍسها فى خجل.

-----------
- كتبت فى عيد القيامة المجيد 5/5/ 2002

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق