الاثنين، 6 أكتوبر 2008

الـقـطـار الأخـيـر


كانت عقارب الساعة تسرع فى طريقها دونما توقف تبحث عن نهاية لدورانها و كان النهار يركض ركضاً إلى منزله وذلك ليفسح مكاناً من أجل الليل الذى بدأ يدفعه دفعاً من أمامه ليترك له مكانه ، و كنت أنا ايضاً أسير مسرعاً فى خطوات أقرب أن تكون ركضات أو قفزات لا توقف فيها حيث كنت أحاول اللحاق بآخر قطار يغادر البلدة . . . كنت أدرك جيداً معنى السعى وراء القطار الاخير . . ، و كنت أعى جيداً معنى فقدى له وما سيترتب على ذلك . . ، ولذلك فقد كانت خطواتى السريعة المتواترة تعبر عن ما يدور فى خلدى حول هذا الموضوع .
عندما وطأت قدمى أرض رصيف المحطة ظننت أنى حققت ما كنت أصبو اليه .. ، و لكن هيهات ذلك .. فبمجرد وصولى وقع نظرى على القطار الذى أنشده وقد بدأ يتحرك عابراً من أمامى بحركة تختلف كثيراً عن حركتى . . فبينما كنت أحاول الاقتراب منه كان يبذل قصارى جهده لكى يبتعد عنى مسرعاً .
أزدت سرعة على سرعتى ووضعت مجهوداً آخر على مجهودى المتضائل من التعب و هممت أن الحق به. هنا أحس القطار أننى سأفوز عليه و استقله رغماً عنه .. فصرخ صرخة مدوية هزت أرجاء المحطة هزاً وكأنها صرخة عدم الاستسلام ، و فى لمح البصر كانت سرعته قد تضاعفت عند ذلك أحس بفوزه فأخذ يسير فى تبختر بنفس تلك السرعة المتضاعفة واثقاً عدم قدرتى اللحاق به .
لكنى لم أستسلم لأفكاره فوضعت كل قدراتى فى قدمىّ ورحت أركض حتى الموت .. انتهى الرصيف تحت أقدامى فلم أهتم بذلك ورحت أركض فوق القضبان ووسط الخشاب و الأحجار دونما توقف . وتحول المشهد إلى تمثيلية درامية أو كوميدية لا أدرى ؟؟ فقد جلس الناس الذين على رصيف المحطة و الآخرون الذين فى القطار المجاور ينظرون إلىِ باهتمام كبير لا أعرف سبباً له . منهم من أمسك فى يديه كيساً مليئاً بالترمس أو اللب أو التسالى المختلفة المرتفعة الثمن و التى لا يقوى على شرائها الكثير من الناس .. كانوا جميعهم ناظرين إلى و كأنما قد تحولت إلى أحد نجوم الكرة المشاهير و الذين يعرفونهم جيداً . و أنا فى طريقى لأسجل هدفاً عزيزاً عليهم .. و قد وضعوا أيديهم فى أفواههم دون حركة . تحسباً أن تكون النتيجة كما تكون دائماً مع أبطالهم الوهميين – نجوم الكرة – أما من خلت يديه من شىء يضعه فى فمه ليمنعه من الكـلام فقد علت صيحاته مع آخرين ليحذرونى . ليس من الركض خلف القطار بل ليعطونى الإرشادات اللازمة لكى أستطيع تحقيق الهدف بسهولة . و منهم من وقفوا فى نوع من الذهول لا يدركون ماذا يحدث أو ماذا يفعلون و منهم من علا صوته يسب و يلعن على سائق القطار و عدم عدله فى قيادة القطار وأنه يجب ان ينتظر قليلاً من أجل بعض المتأخرين .. و منهم من القى باللائمة على النظام بأكمله فراح يصب الكلمات الرديئة على السكك الحديدية بالكامل و منهم من أزاد فى ذلك أنه لم يعجبه أى شخص من الناس حوله وحتى نفسه و كانت كلماته مبعث العجب للجميع . فى كل هذا أصبحت المحطة إستاداً بكل معنى الكلمة . فلم يكتفى الناس بالمشاهدة الصامتة كما فى الأعمال السينمائية أو التليفزيونية و انما كان لزاماً عليهم أن يفعلوا شيئاً .. و هذا الشىء هو الكلام و التحذير والسب و اللعن و التهكم و السخرية و اللامبالاة و الإحباط كل ذلك فى وقت واحد و من كل الناس .. و تذكر الجميع كل الهزائم التى مرت بهم من فرقهم الرياضية المتكاسلة .. فراحوا يغطون بكلام من كل نوع ..
عندما سمع القطار ما يدور خلفه من لغط . كشر عن أنيابة و ضاعف سرعتة مرات و مرات وهرب بعيداً وابتلعه الأفق فى غير عودة ، و كنت أنا الضحية . إذ كيف لى أن ألحق به ! ؟
عدت أدراجى ناحية المحطة و انا أجر أذيال خيبة الأمل .
و تكاد الدموع تقفز من عينى . كانت حالتى تدعو للرثاء ومع ذلك لم يجد الناس أى حرج فى أن يُخرج كل منهم ما يضيق به صدره من هموم فراحوا يوبخون ويتهكمون ويرثون و أنا أسير فى وسطهم كالمتهم فكأنى المسئول عن كل ما أصاب العالم من كوارث فى العشر سنوات الأخيرة ، ولكنى لم آبه لهم فى شىء .. فقد كان ذهنى مشغولاً بأمر آخر هو ذلك القطار الذى فاتنى ، وكيف سأعوضه .
وكان عدم أهتمامى بكلام هؤلاء الناس من منطلق أن الناس هكذا دائماً فهم يتكلمون وهم خارج الموقف فى ثقة وكأن لهم خبرة العالم كله ، وعندما يتعرض أى منهم لنفس الموقف يصرخ من هول ما يرى ، وعموماً فقد استفدت كثيرا ًمن فقدى لهذا القطار فكان هذا مدعاة لى لأتوقف مع نفسى ،و أسال هل هذا هو القطار الوحيد الذى فقدتة فى حياتى ؟ . .
هنــا و أهتز القطار بشدة فأرتطم رأسي بالكرسي الخشبي فاستيقظت .
--------
- محاولة اللحاق بالقطار قد تشيرإلى الجهاد الشخصى للإنسان معتمداً على ذاته فى حياة التوبة دون عمل النعمة معه .
-الناس هم الناس . وآرائهم المختلفة في من يحاول اللحاق بركب التائبين .

10/8/2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق