الاثنين، 6 أكتوبر 2008

سر الراهب الصامت


أتسأل عن الأب الشيخ !! ؟؟
لا أحد يعرف على وجه الدقة . سر هذا الأب فهو قليل الكلام . أو قل ولا حرج عديم الكلام . أكثر من نصف قرن فى الرهبنة على نفس المنهاج . لا تغيير . ولا تعديل . إنه وديع ومحب جداً . يعيش حياة الهدوء و السكون – وبرغم ذلك لم يسلك مسلك الأباء المتوحدين – ورغم كونه يحيا الحياة المجمعية مع الآباء إلاّ أنه لم يتخل لحظة واحدة عن طريقته الهادئة التى تجعلك بمجرد لقياه - ولو عن بعد – تشعر بالهدوء النفسى و الطمأنينة .

أباء الدير نفسهم لا يعرفون عنه الكثير . فقط أب شيخ جاوز الثمانين عاماً. لا يتكلم مع أحد – حتى مع طالبى الإرشاد من الرهبان أو العلمانيين - منهج منفرد . يحضر جميع الصلوات المجمعية ولا يقصر أبداً فيها – حتى فى أوقات مرضه – لا يزوره أحد ولا يزور أحداً. قد تقول لى أن هناك الكثير من أباء الدير يسلكون نفس الطريقة أقول لك أنهم لا يلفتون النظر مثل هذا الأب الشيخ فبمجرد رؤيتك له تعرف منهجه . فيكفيك عندئذ ٍ نظرة من عينيه الوديعتين . فتحظى بمأربك منه وتمض إلى حال سبيلك فرحاً .

ما جعل أباء الدير يفكرون بوجود سر ٌ ما فى حياة ذاك الأب الوقور ذلك التصرف الذى كان يكرره على فترات متباعدة .
كان هذا الأب يخرج من قلايته أوخلوته ليتجول فى ربوع الدير فى كل مكان – كأنما يبحث عن شخص بعينه – وبعد فترة من التجول تراه وقد وجد ضالته . فهو دائماً ما يهتدى إلى شخص بعينه . قد يكون هذا الشخص عاملاً أو زائراً .رجلاً أو امرأة . شاباً أو شابة . كنا نرى ذلك الأب الصامت وقد انتحى به جانباً وجلسا معاً يتحدثان .على الرغم من عدم معرفتهما سابقاً .ودائماً ما تكون مدة الحديث ملفتة للنظر فهي غالباً ما تتجاوز الخمس ساعات و أحياناً ما كانت تحدث بعض المشاكل بسبب تأخير خروج بعض الرحلات من الديرومع ذلك لم يعترض أحداً على ذلك فربما كان ذلك الشخص يطلب كلمة منفعة . ولكن كيف ذلك ؟ فالمعروف أن هذا الأب لا يتكلم مع أى أحد . ثم هل تستغرق كلمة منفعة كل هذا الوقت . أسئلة كثيرة كانت تتناثر هنا وهناك بين الجميع رهباناً و زواراً ولا أحد يستطيع أن يجمع لها إجابة واحدة منطقية تشفى العليل ولكن أحداً لم يسأل هذا الأب ...... إلى أن جاء ذلك اليوم .

فبعدما ضرب ناقوس الدير معلناً عن بداية التسبحة خرجت أنا كعادتى من قلايتى متوجهاً للكنيسة . وبعد أن اتخذت مكانى بين آبائي الرهبان دخل ذلك الشيخ الوقور بعدى فى خطوات بطيئة . وإذ به ولأول مرة أمام الجميع يأتى بتصرف لم نعتد عليه من قبل . فبعد أن صافح الأب رئيس الدير . همس فى أذنه بشىء ما . وهنا ورغم بُعد المسافة بيننا رأيت انتفاضة جسد الأب الرئيس و رأيت ملامح وجهه المنبسطة مع دقات الدف و التريانتو وألحان التسبحة الجميلة تأخذ فى الإنكماش شيئاً فشيئاً ورأيت على وجهه مئات من علامات الاستفهام .

رأيت الأب رئيس الدير وقد همس أيضاً فى أذن أبى الشيخ الوقور وهنا – ولأول مرة أيضا ً – أرى أبى الشيخ يلتفت ناحيتى وقرأت اسمى على شفتيه ورأيت حركة وجه أبى رئيس الدير وهو يتحرك فى بطء من ناحية فم أبى الشيخ إلى ناحيتى . ساعتها فقط علمت أن هناك أمر ما يتعلق بى . فإذا باللحن لم يقوى على الخروج من فمى بعدما كنت مندمجاً بحماس فى التسبحة وقفت كتمثال فى انتظار أن يحدث شىء ما فلم يحدث . فالأب الشيخ عاد فوقف فى مكانه المعتاد والأب رئيس الدير تابع صلواته فى هدوء .

أما أنا فقد غرقت فى دوامة من الأفكار لم أستطع منع نفسى عنها ... لابد وأن أبى الشيخ يشكو منى فأنا دائماً ما أتابعه بنظراتى كلما رأيته مقبلاً نحوى حتى يختفى من أمامى تماماً ... لابد وأنه قد تضايق من هذا التصرف .. كانت الأفكار ترتسم أمامى أحداثاً سوف تتحقق بعد القداس .
( سيقوم الأب رئيس الدير باستدعائى و توبيخى على مثل هذا التصرف الذى لا يتفق مع الأخلاق الرهبانية ) .
يا خطيتى لى حتى الآن عامان فى الزى الرهبانى و لم أستطع التخلص من عاداتى الرديئة . يا رب ارحمنى . وتزاحمت بى الأفكار من كل جانب حتى شعرت بنفسى أختنق و تمنيت لو وقفت وسط الأباء و صرخت بأعلى صوتى . أخطيت سامحونى . و لكنى حاولت التماسك بقدر الامكان إلى نهاية القداس و قد كان .

بعد القداس مباشرة ً طلبنى الأب الرئيس كما توقعت و فجّر أمامى مفاجأة لم تكن لتخطر لى على بال البتة . قال لى : ستذهب مع أبونا الشيخ ( كما كنا نسميه ) فى مهمة عاجلة إلى العاصمة . جهز نفسك ستسافران الآن .. و كأنه قد شعر بهول ما أصابنى من مفاجأة فعاد ليكرر الكلمات كلمة كلمة و بهدوء حتى أستوعب .هنا انتقلت علامات الاستفهام من وجه أبى إلى وجهى و ذهنى . فرآها ورد عليها بكلمات لم تزيلها و لكن زادتها .
قال لى : أعرف ما ستقول .. أنا لا أعلم أكثر من هذا عن الموضوع .. اذهب فاستعد .

لا أتذكر كيف عدت إلى قلايتى و لا كيف كان استعدادى . كل ما أتذكره بعد ذلك هو أنى كنت مع أبى الشيخ فوق عربة المياة فى طريق خروجنا من الدير . كان صوت محرك السيارة يكفى لايقاظ ميت مات منذ سنة إذا مر بجانبه . ومع ذلك لم أسمع منه شيئاً فقد كان هناك طنين يسد آذانى لا أعرف له سبباً أو قل أن الأفكار داخل رأسى كانت فى اندفاعها و كثرتها أكثر بكثير من أى صوت آخر يستطع أن يشدنى . لذلك فقد كنت كالمشدوه لا أبدى أى نوع من الاستجابة لأى مؤثر خارجى .

.. .. وأخيراً .. .. وصلنا العاصمة . و عندما أقول أخيراً لا أقولها اعتباطاً . أو إيجازاً و إنما أقولها بصدق لأننى أثناء هذه الرحلة ما كنت مصدقاً بوجود نهاية سنصل إليها . و لا أبالغ إن قلت بأنه كان هناك من يتعقبنا واضعاً أمامنا العراقيل ليمنع وصولنا . كيف لا والأمور تزداد تعقيداً كلما سرنا فى أى مكان ووضحت أمامى جلية ساعتها مكائد المعاند عدو كل خير ، و تمنيت ساعتها أن أراه وجهاً لوجه لكى أفتك به . ولكن أبى قال لى ساعتها : يا ولدى إن حيل المضاد لا تُقهر هكذا بل بالصلاة و الجهاد المستمر و الإحتماء فى المراحم الالهية .

وصلنا ! و لكن أين وصلنا !؟ فأنا لم أكن أعرف هدفنا المراد الوصول إليه ، و إنما كنت سائراً مع أبى الشيخ فى صمت أتبع ارشاداته للطريق فى تعجب كبير فحتى لو كان أبى قبل رهبنته من سكان هذه المنطقة فكيف تسنى له أن يعرف الطريق بهذه السهولة بعد مرور أكثر من نصف قرن على تركه لها .

وصلنا إلى كنيسة تقع فى إحدى الأحياء الراقية جداً بالمدينة ودون تفكير منى أخذت بيد أبى الشيخ المستند علىّ و هممت بدخول البيعة و لكنى فوجئت بأبى يقول لى أن أجُلسه على أحد المقاعد الحجرية أمام البيعة على الجهة المقابلة فرضخت فى عدم تعجب فبعد كل ما مر بى مع ذاك الأب و كثرة تعجبى أصبح التعجب و الاندهاش و المفاجأة هو الشىء الطبيعى و أصبح غير الطبيعى أن يحدث أمراً عادياً .

جلس أبى و جلست إلى جواره ، مضى نحو ثلاث دقائق لا أكثر ثم قال لى : اذهب إلى ذلك الشخص الواقف أمام البيعة و قل له ( فلان ) يطلبك . و لمّا نظرت إليه باستفسار – لأنه كان يوجد أكثر من عشرة من الشباب يقفون هناك – حدده لى باسمه ووصف ملابسه وطلب منى احضاره إليه .. و لم تتملكنى الدهشة من معرفته لاسمه ولكن ما حيرنى ساعتها ، كيف سأقتحم هذا الجمع من الشباب فقد مرت دقائق فقط وهم أمامى لم أسمع فيها كلمة عادية . فقد كان حديثهم ساعتها بكلمات لا تقو الأذن على سماعها من بذاءتها و دونيتها . و من يضمن لى أنهم لن يأخذونى موضوعاً للتهكم و ربما ينالنى منهم شيئاً أكثر من ذلك . دارت هذه الأفكار برأسى و قبل أن أنطق بكلمة نظر إلىّ أبى الشيخ بعمق و قال لى : اذهب ولا تخف الرب معك ، هنا داخلنى شعور قوانى كثيراً فاتجهت إلى ذاك الشاب بعينه فى خطوات ثابتة و فى اقتضاب قلت له : الأخ فلان ؟ فنظر إلى ّفى شبه ذهول و عجب و أومأ بالايجاب فأكملت قائلاً له : أبونا ( فلان ) عاوزك .. .. .. هنا التفت إلى الجهة الأخرى فرأى أبى الشيخ جالساً هناك فى هدوء فأجاب بسرعة . حاضر .
ثم عبرنا الشارع سوياً فسلّم على أبونا الشيخ و هو يملكه العجب أيضاً . فقال له أبى بهدوء وابتسامة يتخللها بعض الفرح و البهجة : أقعد يا ولدى . وقبل أن أتحرك من مكانى قال لى أبى : ادخل يا أبونا إلى الكنيسة و صلى القداس مع أبوك الكاهن و أذكر ضعفى فى صلاتك و أذكر أخونا ( ذكراسم الشاب ) و انت بترفع الحمل .

و لم أجب بشىء بل تحركت متثاقلاً إ لى الكنيسة و الأسئلة أيضاً تدور برأسى كالدوامة فى وسط البحر( كيف لى أن أترك أبى الشيخ هكذا دون رعاية . و مع ذاك الشاب غير الملتزم . وفى الشارع . وكيف لى أن أقتحم كنيسة دون سابق معرفة . و أصلى القداس فيها . و أرفع أنا الحمل .. و... و.. ) و لكن طاعة لأبى لم أرفض بل نفذت ما طلبه منى
العجيب فى دخولى للبيعة .أن كاهن البيعة إستقبلنى فى ترحاب و سلّم علّى باسمى و سألنى أخبارى و أنا فى ذهول ( فأنا لا أعرفه فكيف يعرفنى هو! ) و لم أسأله بالطبع فقد كنت أعرف بالطبع أن ذلك ضمن مسلسلة الغرائب التى أعيشها مع أبى الشيخ منذ خروجنا من الدير .

انتهى القداس , و لكن أيضاً بعد شىء من التعب فقد كانت نظراتى معلقة بالخارج طوال القداس فى انتظار دخول أبى و لكن هذا لم يحدث ففى نهاية القداس و بعد صرف ملاك الذبيحة رأيت ذلك الشاب الذى تركته مع أبى بالخارج مقبلاً نحوى و قد تغيرت ملامحه كليةً فقال لى : أبى الشيخ يطلبك بالخارج فسلمت على أبى الكاهن و انصرفت خارجاً من البيعة بعد أن أعطانى ( لفة ) كانت موضوعة فى الهيكل الجانبى وعندما خرجت لأبى لم يتكلم معى بل نظر إلىّ قائلاً هيا بنا يا ولدى لنعد من حيث أتينا .

فى طريق العودة جلسنا جانباً مرات قلائل فكنّا نتناول طعاماً من تلك اللفة التى كان قد أعطانيها أبى الكاهن من قبل ثم نتابع السير من جديد و قبل أن نصل الدير بدقائق قليلة حدثنى أبى الشيخ قائلاً :
+ هل رأيت ذاك الشاب الذى تحدثت معه ؟
- نعم يا أبى .. ما له ؟
+ كان ذاك الشاب هو أنا .
- كيف ذلك يا أبى ؟
+ كانت حياتى قبل دخول الدير مثل حياته تماماً . كنت القائد لمجموعة من الشباب لم نكن نعرف شيئاً عن الله أو الكنيسة سوى الوقوف أمامها و السخرية ممن يدخلونها لم نكن نحترم كهنوت أو كبير أو صغير أو عاجز أو طفل أو إمرأة . كنّا بلا هدف بلا مرشد بلا معرفة نتصرف.
( ثم حدث معى مثل ما حدث أمامك اليوم تماماً ) بعدها تركت العالم إلى الدير و كانت تلك الجلسات التى تسألون عنها فى الدير كتلك الجلسة التى جلسها معى أبى الشيخ الكبير منذ أكثر من خمسين عاماً و مثل جلسة اليوم أيضاً . إنها رسالة توبة يا ولدى وصلتنى و يجب علىّ أن أبلغها كما وصلتنى هذا هو الشرط .
- اسمح لى يا أبى .. هناك أشياءاً كثيرة أود معرفتها
+ أتقصد كيف عرفت الطريق ؟ و كيف عرفك الأب الكاهن ؟
- وما سر اللفة ؟ و كيف كنت تهتدى إلى من تكلمهم ؟ و ماذا كنت تقول لهم ؟ .. و .. و..
+ يا ولدى لا تتعجل الأمور . كل هذه الأشياء و أعظم منها سوف تعرفها فى المستقبل عندما تزداد علاقتك بفاديك الذى يعطى لأولاده ما يطلبونه و أكثر بكثير .

ثم سكت أبى برهة قصيرة ثم قال لى إن ما قلته لك الآن يا ولدى سراً . لا تقوله لأحد البتة لقد قلته لك بسماح من الله كمكافأة لك على تعبك معى فى هذه الرحلة و اعلم يا ولدى أن :

الله يرسل رسالته لكل إنسان بالطريقة التى تلائمه و بالأسلوب الذى يقبله
إعِلم ذلك وعلّمه

ثم وصلنا الدير بعد غياب حوالى ثلاثة أيام لم يذق فيها أبى الشيخ طعم الراحة أو النوم . أما أنا فقد كان نومى متقطعاً فى المواصلات التى استقليناها و لذلك فقد وصلت الدير و أنا أشعر بثقل شديد و حاجة ماسة للنوم فبعد أن سلمّنا على رئيس الدير أوصلت أبى إلى قلايته ثم دخلت إلى قلايتى و صليت قليلاً و رحت فى سبات عميق .

إستيقظت فى صباح اليوم التالى على دقات جرس الكنيسة و هى تدق دقات حزينة متتابعة فادركت بإنتقال أحد الأخوة و لمّا خرجت من قلايتى كانت المفاجأة فقد كان المنتقل (أبى الشيخ) ساعتها أصابتنى حالة من الذهول و البكاء المستمر
بكيت كثيراً كما لم أبكِ من قبل . بكيت أكثر مما بكيت على والدىّ المنتقلين . لقد كانت رحلتى مع أبى الشيخ أسعد أيام حياتى رغم كونها أتعب أوقات رأتها عيناى .
لم أصدق ما سمعتُ لذلك فقد هرعت إلى قلاية أبى الشيخ و عندما دخلت وجدته ممدداً على فراشه الفقير فى جانب قلايته مغمض العينين ووجهه يشع بنور سماوى عجيب فركعت بجانبه و الدموع تنساب منى بلا انقطاع فاحتضنته و قبلّت يديه ووجهه . و دارت فى مخيلتى كل كلماته و تحركاته و ايماءاته فازددت بكاءاً و جلست إلى جواره قائلاً : لا تتركنى يا أبى .. .. لا تتركنى يا مُعلمى . و لم أكف عن البكاء طوال ثلاثة أيام عقب نياحته فقد كانت ذكرياتى مع أبى محفورة فى ذاكرتى . لا تغيب عنى مطلقاً .

فى نهاية اليوم الثالث و كنت أصلى صائماً لم أذق شيئاً منذ رحيله و فى نصف الليل و جدت أبى داخلاً إلىّ فى قلايتى كما كنت أراه على الأرض و لكنه اكتسى بلباس سماوى تحوط به غلالة رقيقة من النور المبهج للنفس . فنظر إلىّ مبتسماً و قال : لماذا تبكى ..؟ ؟ لا يوجد وقت للبكاء .. قم سريعاً .. فأكمل توبتك .. ونادى لأخوتك بالتوبة ..
فالمكافأة عظيمة , و التعب يسير

و كل من يسألك عنى يمكنك أن تقول له عن السر .. .. فهو لم يعد سراً .. .. قل له :
إن أبى الشيخ
كان رسالة توبة من الله إلينا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى كل من تزينوا بلباس الجهاد ... إلى من خرجوا لطريق يلتمسون فيه خلاص نفوسهم ... إلى من لا تنقطع صلواتهم من أجل خلاص العالم ... إلى من اختبروا و تلامسوا وعاشوا مع الله ...
إلى كل أباء البرية ... نهدى هذه الفكرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق