الاثنين، 6 أكتوبر 2008

الشــورية

أندرو طفلاً صغيراً لا يتجاوز عمره أصابع اليد الواحدة. تراه دائماً جالساً إلى جوار والده الذى يحتل بصفة دائمة مكاناً فى المقعد الأول من صفوف الرجال فى كنيسة السيدة العذراء مريم بقرية البطاخ بسوهاج، وذلك فى أثناء القداسات،وترى على وجهه البرئ سروراً وفرحاً واغتباطاً متزايداً لا تعرف له سبباُ وهو أيضاً لا يعرف له سبباُ فهو لا يفهم أى شئ مما يحدث حوله من طقوس وصلوات ومع ذلك فهو يشعر بسعادة غامرة بجلوسه فى هذا المكان.

كان أكثر ما يسترع انتباهه ويعجبه فى القداس تلك الآلة العجيبة التى يمسكها أبونا دائماً، والتى يخرج منها دخاناً له أشكالاً جميلة ورائحة أجمل ويكون بها فى الداخل أشياءً مضيئة أحياناً تشتعل، ولها سلاسل وأجراس ذات صوت موسيقى جميل. كل ذلك جعله يتعلق بها أكثر وأكثر، ويصمم على حضور القداسات ليتابع حركاتها المستمرة.. وعندما سأل والده عن اسمها أخبره أنها (الشورية).. ولما كان فم أندرو يفتقر إلى أسنانه الأمامية العليا فقد كان ينطقها (سوريا).
وأصبح كل ما يتمناه أندرو أن يمسك هذه الآلة العجيبة - بطلة أحلامه - وينطلق بها فى كل مكان كما يفعل أبونا.

وعاش أندرو فى أحلامه الصغيرة (... كان أبونا يأخذ السوريا من يد الشماس ويضع فيها شئ لا يعرف كنهه.. فيخطف الشماس الصغير الصليب وشئ آخر لا يعرفه أندرو ويجرى أمام أبونا فى الناحية الأخرى.. ويقول لأبونا.. عاوز أدخن زيك يا أبونا - يرد عليه أبونا.. لا. هات اللى أنت أخدته.. فيرد الشماس لا ويجرى هرباً من أبونا. فيجرى أبونا خلفه ولما تفشل محاولة أبونا للإمساك به يقول له.. خلاص أنا هاخد لفه أدخن شوية. وبعدين أنت.. فيوافق الشماس.. ثم يخرج أبونا للناس.. اللى يلاقيه قاعد.. يقوله له... هلسعك بيها.. يرحوا كل الناس يخافوا ويقفوا (1).. وتانى مرة.. لما يخرج أبونا ويلاقيهم خافوا ووقفوا لوحدهم.. فيرجع تانى وميكملش لف الكنيسة (2).. ويرجعها للشماس.. اللى بياخذها ويلعب بيها شوية وبعدين يرجعها تانى لأبونا...)

كانت أيام جميلة تلك التى عاشها أندرو مع الشورية فى خيالاته الواسعة تلك.. والحوارات التى كان يضعها.. متخيلاً أنها تتم بين الكاهن والشماس فى الدورات المختلفة مما جعله لا يستطيع أن يترك أى حركة للشورية لا يضع لها حواراً فى خياله الصغير.

مرت الأيام وكبر أندرو قليلاً.. وكان فى إحدى الزيارات الرعوية للأب الأسقف لبلدته الصغيرة أنه سيم شماساً - إبسلتس - وهو فى الصف الأول الابتدائى...، وجاء دوره ليكون من أبطال القصة. لا من مشاهديها.. وأدى دوره فى براعة وإتقان لا مثيل له.

فى إحدى الدورات فى نفس أسبوع سيامة أندرو شماساً. لاحظ معلم الكنيسة أن أندرو يُخرج لسانه من فمه أثناء الدورة، ولم يفهم ساعتها وظنه مريضاً، ولما تكرر الأمر وسأله عن السبب. أجابه فى بساطة قلب بكل أفكاره السابقة (إنه يجرى أمام الكاهن ويخرج لسانه له كإتقان للدور ليأخذ دوره هو أيضاً فى الدوران بالشورية). فأبتسم المعلم وابتدأ يشرح له معنى هذه الدورات ولماذا تم وضعها على هذا النحو فى طقس القداس الإلهى.

عقب سيامه أندرو شماساً اشترك فى فصل الألحان والتسبحة وأظهر نبوغاً لا مثيل له.. وكان مجتهداً جداً وتدرج بعمل النعمة حتى صار أغنسطسياً فى سن إعدادى.. وتدرج فى حبه للكنيسة وطقوسها الجميلة والتى جعلها همه الأول.. فكان فى سن ثانوى يعد الأبحاث المتنوعة عن طقوس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومصدرها وكتابيتها ورموزها.. حتى سبق سنه بكثير، وكان دائماً يقول لأقرانه عن ضرورة العمق فى الصلاة ففى رأى أندرو أن الطقوس ليست هدفاً فى ذاتها إنما هى وسيلة تشرح لنا فى بساطة الإيمان ويجب أن نؤدى الطقس بروحانية ولا يكون مجرد حركات لا نفهم معناها أو نحسها وإلا أصبحنا كالفريسيين.

فى سن الجامعة لم تشغله الدراسة عن الكنيسة والخدمة فكان دائماً ملتهباً بعمل الله فيه وملتهباً بمحبة الرب يسوع الذى دعاه للكهنوت عقب إنهاء دراسته وعقب إنهاء رسالة الدكتوراه التى كان قد ناقشها قبل السيامة بشهر واحد وكان موضوعها (الطقوس فى الكنيسة)..
وبدأ فى خدمته الكهنوتية فصار صورة للرب على الأرض.. وكان كلما أمسك بالشورية. تعلو وجهه ابتسامة وينطلق فى حبور وبشاشة يعطى البخور حسب الطقس.. متذكراً دائماً الطفل أندرو.. الذى كثيراً ما كان يحكى عنه فى محاضراته عن الطقس..
------
(1) دورة البولس. (2) دورة الإبركسيس.
- القصة مهداه إلى كنيسة السيدة العذراء مريم بقرية البطاخ بسوهاج كاهناً وخداماً وشعباً.
- كتبت فى 26 / 4/ 2002

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق