الاثنين، 6 أكتوبر 2008

ألف شكر يا سيدنا

(1) (كامل) زوج مثالى فى كل الجوانب. فهو يحافظ على مشاعر زوجته (منال).. ويرعى بيته الصغير بكل حب واهتمام ولا يدخر وسعاً لكى يجعل أفراد أسرته جميعاً فى سعادة دائمة.. خصوصاً طفلتيه (التوأم) سارة، وهبه.. فهو يعتبرهما أهم من حياته هو شخصياً.. ويبذل كل عزيز وغالى فى سبيل أن يرى على وجهيهما الصغير ابتسامة صغيرة.

(2) يعمل كامل - رغم صغر سنه - مدير إدارة فى إحدى الهيئات الحكومية، وله بـاع طويل فى تنظيم المؤتمرات واللقاءات التى كانت تتم فى إدارته وتحت إشرافه المباشر. لذا ذاع صيته فى كل أرجاء الوزارة لنشاطه وأفكاره المتجددة التى تنم عن شخصية ابتكاريه لها ثقلها فى المجتمع.

(3) عقب التعديل الوزارى الأخير تم الاستعداد لاستقبال الوزير الجديد والذى سيتسلم مقاليد الوزارة فى خلال عشرة أيام من حلفه اليمين الدستورية أمام السيد الرئيس. وذلك عقب افتتاحه للمبنى الجديد لإحدى فروع (إدارات) الوزارة..، وكان من المفروض أن تقيم الوزارة حفلاً فنياً عقب الافتتاح للترحيب بالوزير الجديد..، وتم الاتفاق من جانب الجميع بالإجماع على أن أنسب من يقوم بعملية التجهيز للافتتاح والحفل هو الأستاذ (كامل).

(4) تم إبلاغه بالأمر مما جعله يجلس إلى نفسه ويضع الاستراتيجية التى يتم العمل بها خلال الفترة من بدء التجهيز للعمل وحتى نهاية الأمر..
ولم ينس فى طيات ذلك أدق التفاصيل ليخرج العمل على الوجه الأكمل ووضعت تحت يديه التيسيرات كافة ومنح الصلاحيات اللازمة وتم إعداد فريق العمل واجتمع بهم فى إدارته وتحت متابعته وإشرافه المباشر وكانت النتيجة مشرفة.

(5) فى نهاية الحفل قام الوزير بتقديم الشكر الجزيل للقائمين على عملية استقباله والحفل المقام له.. وكان على رأسهم الأستاذ كامل الذى تقدم وصافح السيد الوزير نيابة عن أعضاء إدارته مرحبا بالسيد الوزير الذى اثنى على مجهوده فى بشاشة جعلت كامل يشعر بالفخر والزهو وتمنى لو رأته أسرته الصغيرة والكبيرة وأصدقاؤه وكل معارفه وسمعوا الإطراء من الوزير على مجهوده.

(6) عقب عودته لمنزله فى نفس اليوم كانت هناك رسالة فى انتظاره مضمونها أنه يجب عليه التوجه إلى الكنيسة لأبونا (إشعياء) فى أقرب فرصة، وذلك لحاجة الكنيسة إليه فى أحد الأمور التى سيعرفها عند لقائه مع أبونا، ولما كان من النادر جداً أن يتصل أبونا به من قبل فى منزله فقد شعر كامل بالضيق بعض الشئ وقرر أنه سيذهب باكراً ليستوضح الأمر.

(7) فى صباح اليوم التالى كان الأستاذ كامل يجلس أمام أبونا إشعياء فى مكتبه يخبره بالأمر.. أن الكنيسة فى حاجة إلى خبرة الأستاذ كامل فى مجال تنظيم المؤتمرات الهامة.. حيث أن الكنيسة تحتفل فى نهاية هذا الشهر بالعيد الأول لسيامة الأب الأسقف، ولذلك لابد من إعداد حفل يليق بنيافته وليستطع الجميع التعبير عن ما فى قلوبهم من حب له وأيضاً بهذه المناسبة سوف يقوم الأب الأسقف بافتتاح العيادة المتخصصة التابعة للكنيسة وبعض الأنشطة الأخرى مثل معرض منتجات شباب وشابات الكنيسة من المشغولات اليدوية وفصل تعليم اللغة القبطية ونادى الكنيسة بعد التجديدات والتوسعات وبهذه المناسبة ستقيم الإوبرشية لنيافته حفلاً كبيراً.. يحضره مجمع الآباء الكهنة بالإبروشية والخدام والشمامسة والشعب.. تقدم فيه كلمات الترحيب والكورالات المختلفة ولمَّا لم تكن للكنيسة الخبرة الكافية فى هذا الأمر ورغبة فى الحصول على أفضل نتيجة فلذلك تم الاتفاق على تكليف أحد أبناء الكنيسة من المتخصصين - الأستاذ كامل- لتنظيم والإشراف على هذا العمل.

(8) لم يرفض الأستاذ كامل هذا التكليف فهو شخص يحب عمله جداً وقد رأى أيضاً أنه من الجميل أن يراه الجميع متفوقاً فى الكنيسة كما فى العمل. وتخيل منظره السابق مع سيادة الوزير يصافحه ولكنه استبدله بصورة الأب الأسقف الذى لم تسنح له ظروف عمله أن يراه خلال العام السابق ولا مرة واحدة، وعموماً فإنها أيضاً فرصة للشهرة داخل الكنيسة.

(9)وكعادته جلس إلى أوراقه ليضع الخطة التى سيسير عليها العمل، وكعادته أيضاً اهتم بأدق التفاصيل ليخرج عمله على أكمل وجه. كان فى أثناء وضع خطته يضع نصب عينيه الأب الأسقف باعتباره صورة من أحد الوزراء الذين يقوم بإعداد حفلاتهم قبل ذلك مما دعاه إلى التدقيق بصورة كبيرة فى كيفية دخول الأب الأسقف للكنيسة، خط سيره أثناء التنقل فى الافتتاحات، الحفل ونظامه مراعياً فى ذلك كله أن لا يستطيع أحد الوصول للأب الأسقف حتى لا يتضايق ويرى أن التنظيم ينقص الحفل وتم له كل شئ كما أرد.

(10) وجاءت اللحظة التى كان ينتظرها الأستاذ كامل والتى كان سيرى فيها بوضوح مجهوداته وتعبه فى التنظيم وهى خروج سيدنا من قلايته ومروره على الأماكن المختلفة لافتتاحها ثم ذهابه للكنيسة لحضور الحفل
وكانت المفاجأة التى لم يتوقعها أبداً الأستاذ كامل فالأمور لم تسر على ما كان يرجوه، ولكن على النقيض تماماً من خطته المرسومة فإن الشباب والفتيان المنوط بهم القيام بعملية التنظيم ومنع اقتراب الشعب من سيدنا هم أول من تركوا أماكنهم لينالوا البركة من نيافته ومن ثم تقاطر حوله الأطفال والشباب والرجال والنساء وخرج الأمر من يد لجنة النظام.. التى نسيت تماماً الإرشادات والخطة الموضوعة من الأستاذ كامل.
فراح الأستاذ كامل فى ثورة غضبه لما لم ير أحد معه - يُبعد الناس من حول سيدنا. وهنا تلاقت عيناه الغاضبتان بنظره من عينى نيافته الهادئة والتى ينسكب منهما سلام عجيب فانطفأت فيه ثورة الغضب فى الحال وأومأ له فى هدوء أن يتركهم فلم يفعل شيئاً سوى ميطانية وقبَّل الصليب ويدى الأب الأسقف الذى مرَّ من أمامه يحيط به الجميع فى فرح وبشاشة وهو مازال يقف مكانه فى حالة من الذهول لسبب لا يعرفه.فكل تفكيره قد انقلب رأساً على عقب وسقطت فى نظره كل النظريات العالمية التى كان يطبقها فى إدارة الحفلات والمؤتمرات واللقاءات مع المسئولين الكبار.
فكل ذلك كان يشعر بقيمته قبل أن يلتقى بهذا الأب العجيب فى تصرفاته الذى أدخله فى حالة لم يشعر بها من قبل حالة جعلته أكثر صفاءً.. وقرر الأستاذ كامل أن لا يدع الفرصة تفوته.. وترك كل شئ.. حتى مهام متابعة عملية التنظيم وراح بتتبع الأب الأسقف أينما ذهب من بعيد بنظرات متعجبة مستفسرة فيها حباً وفيها حنيناً لا يعرف سببه.. رأى فى وجه هذا الأب ملامح لم يراها من قبل ولذلك فقد أراد لذاكرته أن تسجل كل كلمة وكل حركة وكل إيمائه ليستغلها فى تهدئة نفسه كلما تذكرها.

(11) كان الأب الأسقف يتنقل من مكان إلى مكان ومن حوله الآباء الكهنة والعديد من الشخصيات التى لها وزنها فى الكنيسة من شمامسة وخدام وإداريين ومسئولين ومثقفين وأكثر الكل كان هناك الكثير من الأطفال حوله فى كل مكان ومع ذلك لم يتضجر منهم، وكانت نظراته وهمساته ولمساته لهم تشعل فى قلوبهم التصاقاً أكثر وفى وسط كل هذا لم يكن الأستاذ كامل يرى أحداً آخر سوى سيدنا فقط.
كان فى الماضى القريب أكثر شئ يهمه رأى الناس وأما الآن فلم يعط الناس أدنى اهتمام لأنه رأى ما كان مخفى عنه..؟!

(12) انتهت الجولة الافتتاحية واتجه الجمع إلى الكنيسة واستعد خورس الشمامسة بالصلبان والآلات الموسيقية الجميلة واصطفوا لاستقبال نيافته وراحت تدوى الألحان الجميلة فى المكان تهز جنبات البيعة.. وشعر الأستاذ كامل شعوراً غريباً أحس ببدنه وقد اقشعر من مهابة الموقف وقال فى ذاته إن هذا أرهب من دخول الملوك.. وطغا على الموكب فيض من الشعور الروحى الذى ألهب قلبه وجعله من فرط فرحته تتساقط دموعه التى راح يخفيها ليس من الناس ، ولكن حتى لا تعطل عليه متابعة رؤية هذا الموكب العظيم..، وداخله إحساس مؤكد أن السيد الرب داخل المكان.. فشعر بحقارته ودونيته وندم على ما عاش من عمر خارج هذا المكان.

(13) بدأت فقرات الحفل الفقرة تلو الأخرى، وكان الأستاذ كامل فى تتبع شديد لما يجرى فى الحفل، وكان محور اهتمامه وتركيزه شئ واحد هو سيدنا فقد اتخذ مجلسه فى مقابلة حتى لا يضيع عليه التمتع بتلك الهيئة السماوية وراح يراقب عن كثب ولا أحد يدرى عنه شيئاً وعن ما يفعله فقد كان الجميع فى اندماج مع فقرات الحفل من كلمات للآباء وكلمات مدح وثناء وشعر وإطراء وكورالات تقدم الترانيم التى تمدح سيدنا دون أن يرى أى منهم ما رآه الأستاذ كامل.

(14) لقد أراد الأستاذ كامل أن يرى لا بعينى جسده ولكن بعين قلبه وإيمانه ما يدور حول الأب الأسقف الذى كان جالساً على كرسى الأسقفية فى وداعة تعلوه صورة السيد المسيح الراعى الصالح.
تابع نظرات عينيى سيدنا التى كان يرسلها فى أماكن خالية من الناس.. فرآه يرى أشياءً لا يستطيع أن يعبر عنها قلم ولا يقوى عقل بشرى ضعيف على إدراكها. * من الواقف أمامى ربى وإلهى ؟ كيف يارب تقف أمامى وأنا جالس هنا..
+ أنا معك.. وأنا من أجلستك هنا.. تشدد بىَّ ومن هى الملكة عن يمينه فى بهاء سوى والدته العذراء البتول مريم.. اذكرينى يا أمى أمام ابنك ربى وإلهى ليقوينى المسيح.
+ لا تخف الرب معك. وأنا أصلى لك.* ومن هو ذاك صاحب البهاء الواقف أمامى إنه أبى القديس مرقس الرسول الكاروز * أعطنى يا أبى من روحك لأكمل رسالتك الكرازية
+ الرب يبارك خدمتك . أنا أذكرك دائماً * ومن ذلك البهى الطلعة إلاك يا أمير الشهداء جورجيوس 0 بارك علىَّ يا أبى وأعطنى من شجاعتك للشهادة للحق.
+ ربى وإلهى يعطيك كما أعطنى وأنا أصلى لك.* ومن أنتِ أيتها الملتحفة بالبهاء والضياء الروحانى * أخبرينى يا عروس المسيح من أنت؟
+ أنا أميرة الشهيدات مارينا * تبارك الرب إلهك يا مارينا الشهيدة يا من غلبت الشيطان وسحقت المعاند اطلبى من أجلى أمام الرب.
+ الرب معك يرعاك وينصرك على المعاند يا ابن المسيح * وأنتم يا آبائى أقطاب الرهبنة كيف لا أعرفكم اذكرونى فى صلواتكم يا آبائى ليعطينى المسيح الرب قوة.. ويعين ضعفى.. اذكرنى فى صلاتك يا أبى الأنبا أنطونيوس وأنت يا أنبا بولا وأنت يا أبى القديس أرسانيوس ويا أبى موسى وأبويَّا مكسيموس ودوماديوس ويا آبائى الثلاث مقارات القديسين، وكل من معكم من الرهبان أبنائكم ومن معكم من الشهداء والشهيدات والصديقين الأطهار اذكرونى جميعكم فى الصلاة أمام العرش الإلهى ليعيننى الرب.
+ الرب معك. ويعطيك كل السلام وسلام لك.

(15) كان الأستاذ كامل يرى ويسمع كل تلك الأشياء الجميلة ليس بعينيه البشريتين، ولكن بإحساسه الذى تنقى من كل هموم العالم ومشاكله وأتعابه الباطلة.. وسبح فى جو الروحانية هذا وهو مندهش تماماً. كيف لا يشعر الناس مثلما يشعر هو.
كانت كل التصرفات والنظرات التى لسيدنا تثبت أنه يرى ويسمع ويتكلم مع آخرين ليسوا من هذا العالم الزائل.. نعم لابد وأنهم سكان السماء ولذلك فقد أضفوا عليه هذا السلام العجيب. فكأن كل العالم من حوله فى جانب وهو فى جانب آخر مغاير لهم تماماً. إنه عالم الروحيات اللامرئى.. لذلك لم يتأثر لأى كلمة من كلمات الإطراء والمديح.

(16) انتهى الحفل ومازال الأستاذ كامل غارقاُ فيما هو فيه وفى نهاية الحفل تقدم الأب المسئول عن تقديم فقرات الحفل بالشكر للأستاذ كامل على مجهوده وتعبه فى رسم خطة النظام ودعاه للخروج لأخذ بركة سيدنا.. فخرج من مكانه متثاقلاً ورأى المسافة بينه وبين مكان سيدنا قد تضاعفت عدة مرات.. وكان يفكر فى ذاته أنه غير مستحق أن يصافح يدى هذا القديس ويقبلها ومع ذلك ومع إحساسه بطول المسافة لم يرى فرداً واحداً حولـه سوى هو فقط وسيدنا الذى نظر إليه بهدوئه الجميل وهو يقبل يده قائلاً له. شكراً.. وكاد ساعتها أن يقفز قلبه منه من تواضع سيدنا ومحبته ونظر إليه سيدنا أيضاً نظرة عميقة لها مغزى معين وابتسم، وخرج من أمام سيدنا وهو فى قمة السلام والفرح الروحى يخاطب نفسه فى هدوء قائلاً :
لما أنت يا سيدنا تقول لى شكراً
أُمال أنا أقول لك إيه..؟
شكراً يا سيدنا.. ألف شكر يا سيدنا
وخرج إنساناً جديداً.
--------
+ القصة مهداه إلى نيافة الأنبـا سـارافيم أسقف كرسي الإسـماعيلية وتـوابعها.. بمناسبة عيد جلوسـه الأول في 3/6/2002
+ كتبت في 3 / 6/ 2002

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق