الاثنين، 6 أكتوبر 2008

شاب من الفكرية

(1) كانت أمنية حياة فيكتور أن يلتحق بكلية الطب - ولأن الرب كان معه فقد حقق له أمنيته - كان هذا العام هو عامه الأخير فى الدراسة قبل أن يبدأ حياته العملية.. ويعود فيكتور بذاكرته للوراء عندما دخل الحرم الجامعى الأول وكيف خفق قلبه بشدة شكراً وحمداً وسبحاً للرب يسوع الذى حقق له أمنيته وعرفاناً بالجميل لشفيعه البطل الرومانى مارجرجس وكيف توالت أيام الدراسة. ورأى فيكتور داخل الجامعة ما سرَّه وما أحزنه. فما سره كانت علومه التى يدرسها والتى كانت موضع اهتمامه وتأملاته. وما أحزنه كان انحدار مستوى الأخلاق عند بعض شبابنا المسيحى مما جعله يرفع العديد من الصلوات للرب القدير أن يحميه وكل أقرانه من أبناء وأفكار وفلسفات هذا الدهر المتناقض حتى مع ذاته، ولذا فقد سارت حياة فيكتور الجامعية بيسر شديد فكان كالسراج المضئ فوق المنارة استطاع أن يكوَّن العديد من الصداقات الناجحة تحت لواء المحبة للجميع فوجد فيه أصدقاءه المسلمين.. أخلاقه القويمة.. أسلوبه الهادئ المتزن.. حسن تعامله معهم.. ثقافته ومشاركته لهم فى أفراحهم وأتراحهم ووجد فيه أصدقاؤه المسيحيون مرشداً واعياً مهتماً بخلاص نفوس الجميع.. فكان دائماً يقول لهم بضرورة أن يظلوا على اتصال دائم مع آباء اعترافهم والكنيسة والتناول، وكان يحثهم دائماً على حضور اجتماع الشباب الذى يعقد كل يوم أربعاء فى كنيسة شفيعه وحبيبه مارجرجس هنا فى الفكرية (أبو قرقاص).

(2) الكل هنا يعرف فيكتور ذلك الشاب المؤدب المتزن صاحب الأخلاق الذى صار بأدبه وخلقه محط أنظار الجميع صار القدوة والمثال الذى يحتذى به.. هاهم آباء الكنيسة يعرفون بالحق دور ونشاط فيكتور فى خدمته كشماس و تحفيظ الشمامسة الصغار الألحان الكنسية.. وفى افتقاداته التى يتسع مجالها يوماً بعد يوم وفى نجاحه المنقطع النظير فى إدارة وتنظيم اجتماع الشباب المسئول عنه وأفكاره ومقترحاته المستمرة لتطوير الخدمة فى الاجتماع وجذب النفوس البعيدة والمحافظة على الحاضرين المنتظمين. ها هما أباه وأمه يدركان تماماً... عظم عطية الرب لهم ومدى حبه العظيم لهما إذ رزقهما بعد عشر سنوات من عدم الإنجاب بتلك الهبة السماوية... التى جعلتهما يطمئنا إلى شيخوختهما فى ذلك الشاب المؤمن. ها هم أصدقاؤه شباباً كانوا أو شابات.. مسلمين أو مسيحيين.. رأوا فيه الأخ الحكيم.. صاحب الأخلاق والتدين الحقيقى غير المتكلف الذى يخفى ورائه قلباً طاهراً مليئاً بنور الإيمان النابع من حلول الإله العظيم داخل هذا الإناء المختار.

(3) بدأ فى ذاك اليوم عندما كانت الساعة تدق معلنة الوقت فإذ هو السادسة صباحاً ميعاد استيقاظ فيكتور من نومه - أزاح عنه دفء الغطاء فى نشاط ورسم ذاته بعلامة الصليب المحى ثلاث مرات كعادته.. نظر إلى صورة السيد المسيح أمامه كان التقويم أسفلها يشير إلى أنه اليوم الثانى عشر من فبراير عام سبعة وتسعون وتسعمائة وألف ووقع نظره على أن اليوم هو الأربعاء وتذكر فيكتور أن اليوم ميعاد اجتماع الشباب خرج فيكتور من غرفته فغسل وجهه وعاد أدراجه إلى غرفته فى هدوء.. كانت تلك الغرفة تمثل العديد من المعانى. كانت المكان الوحيد الذى يشعر فيه بالراحة والأمان حيث يجلس عن أقدام الرب ويعيش حياة التأمل كمريم أخت لعازر.. كان يغطى جدرانها الأربعة بصوراً لقديسين قد تجد مجهوداً كبيراً لتستطيع أن تعدهم وتعرفهم بأسمائهم - فقد كانوا فعلاً أصدقاؤه كان يعتبر تلك الغرفة كقطعة من السماء... كان يدرك تماماً بحلول المسيح فيها دائماً مع أحبائه القديسين.
وقف فيكتور معطياً وجهه ناحية المشرق تجاه صورة السيد المسيح وبلهفة شديدة وحب جارف بدأ صلاة باكر ومن أول كلمة نطقها شعر بشعور غريب لا يعرف كنهه أو سببه.. وكلما زادت صلاته حرارة أزداد هذا الشعور المريح.. شعور لا يقوى عقل بشرى إدراكه ولا يستطيع أى إنسان ضعيف على فهمه ولا تستطيع نفس بشرية أن تتخلى عنه. شعور تقف الكلمات عاجزة عن وصفه، ويشعر القلم أمامه بإحباط لعدم تمكنه من التعبير عنه ظل هذا الشعور يملأ فيكتور فغمره كله جسداً ونفساً وروحاً بإيمان وثقة وثبات فى إيمانه بالرب يسوع.

(4) أنهى فيكتور صلاته فخرج من قلايته كما كان يحلو له أن يسميها - ووجد والده ووالدته قد استيقظا فقبَّل يدى والده ووالدته.. ولما علم أنهما فى طريقهما لحضور القداس. طلب منهما أن يذكراه فى صلواتهما ارتدى ملابسه متجهاً للجامعة وهو يظفر حمداً للرب الإله صاحب تدابير الخلاص. متذكراً أن اليوم هو الأربعاء تذكار تشاور اليهود على الرب ومذكراً نفسه بصوم يوم الأربعاء الذى يحلو له أن يحافظ عليه مع صوم يوم الجمعة. فى آخر اليوم الدراسى وقف فيكتور مع أصدقائه المسيحيين فأكد عليهم جميعاً ضرورة حضورهم لاجتماع الشباب اليوم الساعة السابعة مساءً واستأذنهم عائداً إلى منزله.
بمجرد وصوله للمنزل رفع صلاة شكر قصيرة إلى الرب يسوع الذى حفظه. بعد ذلك تناول فيكتور الطعام مع والديه.. ثم وقف يصلى الثالثة والسادسة والتاسعة معاً كما تعود وحسب برنامجه الروحى مع أب اعترافه فكانت هذه الفترة بالنسبة له أقرب ما تكون إلى الحياة فى الفردوس وأثناء صلاته عاوده ذلك الشعور الذى غمره صباح اليوم حتى فضَّل لو لم ينهى صلاته. لولا علمه بأن الرب ينتظره أيضاً فى داخل كلمات الكتاب المقدس. فأنهى صلاته وسارع بفتح كتابه المقدس وعلى مدى ساعة كاملة كان قد ارتوى فيكتور من ينابيع الحب الصافية.

(5) نظر فيكتور لساعته فرآها وقد قاربت السادسة مساءً فارتدى ملابسه واتجه إلى كنيسة شفيعه مارجرجس، وذلك لحضور اجتماع الشباب. دخل فيكتور الكنيسة فشعر بقلبه يخفق وكأنه يسجد للرب قبل جسمه صلى فيكتور أمام هيكل الرب.. واتجه إلى أبونا جرجس أب اعترافه بمكتبه فجلس معه فى جلسة اعتراف هادئة شعر بعدها حقاً بأنه لا يوجد سلاماً آخر فى العالم كله سوى ما يشعر هو به. توجه فيكتور مرة أخرى إلى خورس الكنيسة حيث أعد مكان المحاضر حيث كان قد حضر عدد ليس بقليل من الشباب والشابات.
افتتح فيكتور فقرة الترانيم لحين حضور الشاب المسئول عن الترانيم، وجلس إلى منضدة فى آخر الكنيسة ومعه سجل الحضور لتسجيل أسماء الشباب الداخل للاجتماع وتوالت الترانيم فكان معظمها من اختيار فيكتور. كان يرتلها مع الشباب بمشاعره وأحاسيسه وكل ما فيه من قوة. وانتهت فقرة الترانيم وبدأ مع الشباب فى تلاوة صلاة الغروب كعادة الاجتماع ثم تلا ذلك صلاة ارتجالية لفيكتور استطالت إلى عشر دقائق قال فيها فيكتور أحلى الكلمات الحقيقية غير المتكلفة والتى تمس القلب والوجدان فشعر الجميع وكأنهم فى السماء... وبدأ فيكتور يختم الصلاة مردداً (ارحمنا)، وتعالت الأصوات الرخيمة مدوية فى الكنيسة... ارحمنا يا الله مخلصنا.

(6) وسط هذه الصلوات سمع الجميع ومنهم فيكتور بأصوات أقدام تجرى متجهة إلى داخل الكنيسة.. ثم أصوات وابل من طلقات الرصاص هنا وهناك.. ويتلفت الجميع فى دهشة! ممزوجة بالفزع للوراء ليروا ما يحدث.. وفى لحظات قصيرة ظنها المصلون ساعات طويلة يرى الجميع من يسدد إليهم البنادق الآلية فى غير رحمة، وقبل أن يدرك فيكتور حقيقة الموقف ومن هؤلاء الذين يطلقون الرصاص كانت قد استقرت فى قلبه رصاصة من رصاصاتهم الغادرة فسقط على الأرض. ضمن الذين سقطوا وتعالت صيحات الاستغاثة.. وفى ثوانى قصيرة انتهى كل شئ ليحدث سكون عظيم وحركة مستمرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصابين.

(7) شعر فيكتور بيد ترفع رأسه من على الأرض وبذل مجهود لا يوصف لكى يقع بصره على هذا الشخص فإذ به أبونا جرجس.. شعر فيكتور بسلام وهو فى حضن أبيه الروحى.. وشخص ناحيته قائلاً فى هدوء: "اخبر والدىَّ إنى كنت أتمنى أن أكون معهم. لكن الله يريدنى ثم نظر ناحية شرقية الكنيسة قائلاً إنى أرى شفيعى البطل مارجرجس يقبل علينا ويشير إلىَّ قائلاًَ هلمَّ معى. سلام يا أبى وأغمض عينيه وأسلم الروح.

(8) من مذكرات فيكتور تحت تاريخ نفس اليوم 12/2/1997 هذا لن يكون يوماً عادياً على كل الأحوال اختم يارب على يومى بالبركة.

(9) كتب فيكتور إهداء لأحد أصدقائه على هدية قائلاً. إذا كان حب الله يغمرنا بهذه الطريقة على أرض الشقاء.. فكم يكون فى الأبدية؟!
(10) من مذكرات فيكتور قبل هذا التاريخ بعشر سنوات
اعطنى يا إلهى أن يكون لى شرف الشهادة على اسمك.. وأن أظل بتولاً كيف؟.. لا أعلم..رتبها أنت.. وأنا أثق ..آمين
------
+ القصة مهداه إلى أرواح الشهداء الأطهار ضحايا الحادث الإرهابى الغادر بكنيسة مارجرجس بالفكرية (أبو قرقاص) يوم الأربعاء 12 / 2/ 1997م
+ كتبت فى 17 / 2/ 1997م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق