الاثنين، 6 أكتوبر 2008

دمـــوع


نظرتُ إلى دموعها المتساقطة الواحدة تلو الأخرى ولم أتمالك نفسى إلاّ وأنا أسألها عن سبب دموعها المنهمرة فى ليلة كهذه ,ليلة ينتظرها كل البشر من العام للعام ,ليلة تتبدل فيها الأحزان بالأفراح – من وجهه نظر الناس – ليلة رأس السنة . سألتها وكأنما أردت بسؤالى أن أخفف عنها ,ولكن دونما رد منها فسؤالى لم يؤثر على حالتها فى شىء وإستمرت فى بكائها فكانت دموعها المنسابة منها تلمع أمام الضوء فرأيتها ساعتها جواهر ثمينة – ماسات تضوى تأخذ الألباب – فزادت فىّ الرغبة أكثر وأكثر لأعاود السؤال وأكرره وألح فى طلب إجابة عليه ، فلابد وأن يكون سبب هذا البكاء رهيباً ..

وأخيراً وبعد فترة من الإلحاح بدأت تتكلم . كان كلامها أقرب ما يكون إلى صوت مريض يئن فى يأس من وطأة المرض . كانت دموعها تسبق كلماتها قالت لى : عن ماذا تسأل ؟ عن سبب بكائى ؟ هل ستصدقنى إن قلت لك بأنى قد لا أعرف ما هو السبب الحقيقى لبكائى ؟ هل ستصدقنى إن قلت لك أنه لكثرة الأسباب التى تبكينى أصابتنى حالة من الذهول جعلتنى خلطت ما بين الأشياء التى تفرحنى والأشياء التى تبكينى . ولكن ومع كل ذلك دعنى أنا أسألك لأجيب عليك : هل ترى أن ما فى العالم الآن يدعو للسعادة أم للحزن والبكاء والكآبة ؟ لقد مضى عام ـ عام كامل ـ وها أنتم اليوم تحتفلون بنهاية هذا العام وبداية عام جديد . أخبرنى بالحق هل ترى أى شىء تغير فى ذاك العام المنصرم؟

ونظرت إليها مستفسراً فأكملت فى جدية مؤلمة للنفس : لقد مضى عام . عام كامل ـ وأعوام كثيرة من قبله ـ دونما جدوى من أن يتغير الانسان ويصبح أكثر انسانية لكن للأسف فكل يوم يمر عليه يتدنى أكثر وأكثر فى انسانيته وبدلاً من يسعى جاهداً لاصلاح ذاته فهو على العكس يرى أنه مثالى فوق العادة فأراه يسعى لتقديم التنازلات بكل جرأة .. أراه يسعى لكى يُنقص جمال كل شىء حوله . " أشياء كان يجب نسفها بالكامل مازالت قائمة كصرح مميز للعام الجديد . غابات واشجار وحيوانات نادرة تموت وتندثر وتنقرض . هواء وماء وتربة فى تلوث دائم يومياً بأشكال مختلفة دونما شخص يسأل أو يرحم ... حقوق و قوانين تنتهك بلا خوف أو وجل . كرامات إنسانية تهدر ..

أعراض تهتك .. قوانين الظلم تسود .. قيم و مبادىء تلغى ليحل محلها إباحية وفجور تسأل ولا أحد يجيبك .. تستغيث و ليس هناك منقذ فكأنما العالم أصبح لا يدرى ما يجرى داخله و تسألنى بعد كل هذا لماذا أبكى ؟

إنى أبكى على الإنسان .. ذلك المخلوق العظيم الذى خلقه الله فى أحسن صورة ، ولكنه بجهله وارادته يدمر نفسه ويدمر أخوته ويدمر العالم من حوله دون أن يقف لحظة واحدة الى ذاته ليعيد حساباته و يحاسب نفسه ويقيمها. قالت كلماتها هذه و أنا أقف أمامها مثل المتهم الذى لا يعرف كيف يرد على هذه الأتهامات الموجهة ضده و حاولت أن أرد فلم استطيع .. أما هى فقد تساقطت منها الدموع بسرعة .. و ابتدأت الأصوات تعلو من حولنا استعداداً لكى يطفأ النور للأحتفال بانتهاء العام ، وبداية العام القادم نظرت إليها فلم أرى فيها حياة ..

كانت تلك الكلمات التى قالتها هى حياتها و رسالتها و تركت بعدها الرأى و التصرف الأخير لنا .. ناديتها بكل قوتى لكى تجيب ، و لكن دون جدوى فقد رحلت مع آخر لحظة من العام القديم ، وهى مازالت تشعر بالاكتئاب من تصرفات الإنسان .و تمنيت لو عاشت لترى النور .. نور العام الجديد و ترى كيف سيتغير الإنسان .. ، و لكن دون جدوى .. انهمرت دموعى منى دون ضابط ورحت ابكى بحرارة على تلك البائسة التى عاشت معذبة فى مجتمع لم يدرك قيمتها ..

وأخذت كلماتها إلى ذهنى وغرستها بعمق فى قلبى . وعزمت على أن أعيش حياتى القادمة أداة لتنفيذ كل ما كانت تتمناه تلك الشقية ، ودارت بى الأفكار كيف سأتصرف ورحت أعقد الآمال وأصنع الخطط لتجميع الأصوات و الأشخاص و المسئولين للعمل على تنفيذ مقترحاتها – أن يسود العالم السلام و أن يعمل الكل من أجل حقوق النسان و الحيوان و الطبيعة – هنا و أضاء النور من حولى و تعالت الصيحات فرايتها أمامى و قد فارقتها الحياه كلية ، وتركت كل شىء وبدأت حياتى الجديدة أن أبحث عن أول شىء جيد أفعله فى العام الجديد يثبت إننى مازلت إنسان .. و كانت آخر كلماتى لها ... نامى واطمئنى يا صديقتى ... الشمعة .

ـــــــــــــــــــــ
28/12/2001
- الشمعة قد تشير الى الشخصيات التى لها بصمة فى مجال العمل الرعوى وكذا النواحى المختلفة . دونما استجابة من المحيطين ودون تقدير منهم .
- الشمعة تشير إلى عمل الآباء و الخدام الذي عملوا كثيراً دون استجابة .
- وقد تشير إلى أى شىء آخر قد يراه القارىء ...
- القصة مهداة إلى مثلث الرحمات المتنيح ... الأنبا أغاثون
مطران الإسماعيلية و رئيس دير الأنبا بولا العامر بالبحر الأحمر الذى أضاء بنور فضائله حياتنا لأكثر من ربع قرن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق